سورة الأعراف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)}.
التفسير:
ويقيم بنو إسرائيل على ضربات الذل والاستبداد، يرميهم بها فرعون.. وموسى يدعوهم إلى الصبر، حتى يحكم اللّه بينهم وبين فرعون.
ويتلقى فرعون وآله ضربات السماء، ضربة بعد ضربة، وكل واحدة منها تحمل شارة من شارات السماء، بأنها آية من عند اللّه، وعقاب واقع بالقوم لهذا الموقف المتحدّى الذي وقفوه من موسى، بعد أن جاءهم بآيات اللّه.
وأول ضربة نزلت بالقوم كانت بلاء حلّ بأقواتهم، فيما تجىء به الزروع من غلات وثمرات.
{وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
والمراد بالسنين هنا، هو الجدب الذي يجىء من نقصان النيل، وقلة الماء الذي يجىء به، الأمر الذي يترتب عليه جفاف الزرع، وقلة الثمر.. يقال أسنت القوم أي دخلوا في سنة جدباء.
وهذه ضربة ربما لم ينكشف للقوم فيها وجه العبرة سافرا، إذ كثيرا ما كان يفعل النيل شيئا من هذا معهم، وإن كانت فعلاته في تلك المرّة أمرّ وأقسى.
وقد عرفت مصر سبع سنين عجافا كما ذكر القرآن الكريم ذلك في زمن يوسف عليه السلام، وكان ذلك من قلة ماء النيل في هذه السنين. فإذا فاض النيل في سنة قالوا هذا مما هو من حظنا ورزقنا، وإذا أمسك النيل في سنة أخرى تشاءموا بموسى ومن معه، وعدوّا ذلك من شؤم موسى وجماعته.
{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ}.
والحسنة هنا هى السنة المعاطاة للخير ووفرة الثمر، والسيئة، هى السنة الجديب التي لا يحيا فيها زرع، ولا يجىء ثمر.
والتطير: هو التشاؤم على عادة العرب من زجر الطير، فكانوا إذا أطلقوا طائرا، فطار إلى اليمين.. تيامنوا به، واستبشروا، وسمّوه سانحا فإذا طار إلى اليسار تشاءموا به وسمّوه بارحا.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى أن ما ينزل بهم من خير أو سر، وما يحل بهم من بلاء أو عافية، هو من عند اللّه، وأن ليس لموسى ولا لقومه شيء في هذا الأمر كله.. وأن الطائر الذي تتعلق به الأبصار، وتتعرف على وجه الخير أو الشرّ منه، ليس هو هذا الطائر السابح في السماء، ولكنه طائر من عند اللّه، إن شاء أرسله عليهم رزقا وخيرا، وإن شاء أرسله نحسا وبلاء. وفي التعبير عنه بالطائر، إشارة إلى أنه يتنزّل من عل.
والصورة كلها قائمة على المجاز جريا على عادة العرب.. وإن كان لكل قوم أسلوبهم في التفاؤل والتشاؤم.
ويمضى فرعون وقومه في العناد والتحدي، على رغم هذه النّذر التي تطلع عليهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ولكنهم لا يتذكرون، ولا يتعظون! {وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وتجىء الضّربات بعد هذا:
{فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
والطوفان هنا هو فيضان النيل، وتدفق مياهه في غزارة وجنون، حتى ليغرق السّهل والوعر، وبكاد ينتزع البلاد والعباد، ويهلك الحرث والنسل.
ومن هنا يمكن أن ندرك أن {الطوفان} الذي كان في عهد نوح عليه السلام، لم يكن طوفانا عاما شاملا العالم كله، وإنما كان طوفانا محدودا في هذه الرقعة من الأرض، التي كان يعيش فيها هو وقومه.
والجراد: آفة مهلكة إذا طلعت أسرابه على الزرع أتت عليه، فلم تبق منه ثمرا ولا ورقا.
والقمّل: حشرة صغيرة، تسكن الأجساد القدرة، وتعيش على ما تمتصه من الدم.. وقيل هى صغار الجراد، وهى أشدّ فتكا وأكثر بلاء من كباره.
والضفادع: جمع ضفدع، وهى حيوان مائى، برّى.. بشع المنظر، مزعج الصوت.
والدم: سائل يجرى في عروق الكائن الحىّ، إذا خرج من العروق تجمّد.
وقد سلّط اللّه هذه الآفات على فرعون وملائه، واحدة بعد أخرى، فكانوا إذا نزل بهم البلاء طلبوا إلى موسى أن يسأل ربّه رفع هذا البلاء، وأنه إذا استجاب له ربّه فيهم، وعافاهم مما نزل بهم، آمنوا به، وصدقوا رسالته، واستجابوا لدعوته في إرسال بنى إسرائيل معه.. حتى إذا رفع عنهم البلاء نكثوا العهد، وساروا سيرتهم في بني إسرائيل، فيرسل اللّه عليهم آفة أخرى.
وهكذا.. تأخذهم الشدة، فيفزعون ويؤمنون، فإذا مستهم العافية، تمردوا على اللّه، وكفروا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ} أي آيات ظاهرة واضحة بينة، كل آية منفصلة عن الأخرى زمنا، ومختلفة أثرا.. حتى يكون في الانفصال الزمنى فرصة للمراجعة والرجوع إلى اللّه، وحتى يكون في اختلاف الأثر، وفي تذوّق تلك الطعوم المرّة المختلفة لهذه المحن، ما يجعل البلاء شاملا لهم جميعا، على اختلاف معايشهم، وتنوع أحوالهم، وتباين طبائعهم.
فمن لم يصبه الطوفان في ماله، أو نفسه، أصابه الجراد أو القمّل، أو الضفادع، أو الدم.. وهكذا لا يسلم أحد منهم من أن تلبسه المحنة، وتشتمل عليه.
وهذه الآفات.. من طوفان، وجراد، وقمّل، وضفادع، ودم- إنما تكون بلاء حين تجاوز الحدّ، وتخرج على غير المألوف، بحيث تغطى وجه الحياة على الإنسان، وتسدّ عليه منافذ التحرك إلى أي اتجاه.. إنها حينئذ تكون نقمة من أقسى النقم، ولو كانت في أصلها مما يطلبه الإنسان ويحرص عليه..!
وقد قيل عن الضفادع مثلا، إنها كانت من الكثرة بحيث لا يجد الإنسان مكانا يضع عليه قدمه... فكيف إذا أراد النوم، أو الطعام، أو نحو هذا؟.
وقالوا في الدم، إنه كان مسلطا على أي طعام أو شراب لهم.. فإذا مدّ الإنسان يده إلى الطعام، ثم رفعه إلى فمه تحول إلى مادة ملطخة بالدم، منغمسة فيه، وإذا تناول شربه من ماء، وأراد شربها استحالت دما مسفوحا..! فما أعظم هذه البلاء، وما أشد هذا الكرب.!


{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)}.
التفسير:
الرجز ما يسوء وجهه، وأثره.. من الأمور، وهو مقلوب كلمة زجر فكأنه رجز ينقلب زجرا لمن يحلّ به.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي لما نزل بهم البلاء، وحلّ بهم العذاب.
{قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} أي لجئوا إلى موسى، ومدوا أيديهم إلى مصافحة عدوّهم، يسألونه العون والنّجدة.. ولكن في كبر وعناد.. {يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ}.
فهم ما زالوا على كفرهم، لا يؤمنون بالإله الذي آمن به موسى ودعاهم إليه، فهو رب موسى لا ربهم: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بما بينك وبينه من صلة، ومالك عنده من عهد باستجابة ما تدعوه به.
{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} أي لئن استطعت بما بينك وبين ربك من صلة، أن تكشف عنا هذا البلاء لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل، ونطلقهم من أيدينا، لينطلقوا إلى حيث تشاء.
والقوم مبيتون النية على الغدر بهذا العهد والنكوص عنه، وفي كلماتهم ما يفضح هذا الغدر الذي ضمّت عليه صدورهم.
فهم- أولا- ينسبون إلى موسى أنه هو الذي يكشف عنهم البلاء، بحيلة أو بأخرى من حيله، {فيقولون لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} ولم يقولوا {لئن كشف ربّك عنّا الرجز}.
إنهم لا يعترفون- في قرارة أنفسهم- بأن هناك ربّا غير الأرباب التي يعبدونها.
وهم- ثانيا- لا يؤمنون باللّه إذا انكشف عنهم البلاء، بل يؤمنون بموسى، فيقولون: {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} ولم يقولوا: لنؤمننّ بإلهك!.
{فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
فلقد كشف اللّه عنهم الرجز إلى أجل، أي كشفا مؤقّتا، لينكشف ما هم عليه من غدر ومكر.. وقد انكشف غدرهم ومكرهم، فنكثوا هذا العهد، ولم يؤمنوا بموسى، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل.. بل عادوا معهم سيرتهم الأولى، في صورة أشدّ وأنكى.
{فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} وتلك هى عقبى الدين ظلموا.. لقد أغرقهم اللّه بذنوبهم، بسبب تكذيبهم بآيات اللّه، وغفلتهم عن مواقع العبرة والعظة منها.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها}.
القوم الذين كانوا يستضعفون هم قوم موسى، وقد منّ اللّه عليهم بالخلاص من يد فرعون بعد أن أهلكه.
وفي قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} إشارة إلى أن فرعون هذا الذي كان يحسب أنه من الخالدين، قد أهلكه اللّه، وأن هؤلاء القوم الذين كانوا شيئا مرذولا في الحياة لعين فرعون ولآل فرعون، قد ورثوا هم الحياة بعده، وها هم أولاء على الأرض أحياء، على حين أصبح فرعون وملأه في الهالكين.
والمراد بمشارق الأرض ومغاربها: سعة هذه الأرض، وقدرتهم على التحرك فيها، والتنقّل بين شرقها وغربها، غير مضيّق عليهم من أحد.
فهى أرض ذات آفاق متعددة، كل أفق منها مشرق ومغرب، فهى بهذا الاتساع، مشارق ومغارب.
والمراد بالأرض التي بارك اللّه فيها، هى الأرض المقدّسة التي دعاهم موسى بعد ذلك إلى دخولها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى:
{يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}.
والمراد بالكلمة الحسنى في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} هى الكلمة التي وعد اللّه بها بنى إسرائيل على لسان موسى، وهو أنهم سيخلصون من هذا البلاء كما قال اللّه تعالى: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
فهم إذا استعانوا باللّه وصبروا كانت العاقبة لهم.
وتمام الكلمة، إنجاز ما فيها من وعد كريم.
وكون الكلمة حسنى لأنها تحمل إلى بنى إسرائيل الرحمة والنعمة، لا البلاء والنقمة، وكلمات اللّه كلها حسنى، ما حمل منها الرحمة، وما حمل البلاء.. ولكن حين تكون كلمة اللّه مبشرة هى غيرها حين تكون منذرة... وذلك في واقع حياة الناس، وفي حسابهم.. أما كلمات اللّه فكلها الحسن والكمال.
وقوله تعالى: {وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} إشارة إلى ما حلّ بدولة فرعون، وما وقع فيها من اضطراب وفساد بعد أن هلك، وهلك رءوس القوم معه، فقد صار أمر الناس إلى فوضى واضطراب، ففسد كل شيء كان صالحا، وخرب كل مكان كان عامرا، من ديار وزروع.. معروشات وغير معروشات.


{وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}.
التفسير:
ما كاد بنو إسرائيل يخلصون من يد فرعون وتزايلهم مشاعر الخوف والفزع التي كانت مستولية عليهم- حتى تنبّهت فيهم غريزة المكر واللؤم، وحتّى تحرك فيهم داء اللّجاج والعناد.. فإنهم ما إن رأوا أناسا يتعبدون لأوثان وأصنام، حتى سألوا موسى أن يأخذ لهم نصيبهم من هذا الباطل الذي بين يدى هؤلاء النّاس! إنهم يحسدون الناس على أي شيء يقع لهم حتى ولو كان بلاء وشرّا! وقوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} أي نقلناهم من شاطئه الغربي إلى الشاطئ الشرقي، فجاوزوه وخلّفوه وراءهم.
{فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ} أي فمروا بقوم منهمكين في عبادة الأصنام التي اتخذوها آلهة لهم.
{قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ}.
إنهم مع إيمانهم بأن اللّه واحد لا شريك له، فإنهم لن يعبدوه، بل ولن يؤمنوا به حتى يتجسّد لهم ويروه رأى العين.. فهم يطلبون إلى موسى أن يجسّد لهم اللّه، وأن يصوره لهم على أية صورة محسوسة مجسّده.
وذلك ضلال مبين، وجهل جهول.. فكيف تكون للّه صورة؟
وكيف يحويه شى ء؟ إنه لو تصوّر لتحدّد، ولو تحدّد لاحتواه المكان والزمان، وهذا يعنى أنه دون المكان والزمان، إذ اشتملاه واحتويا عليه!! ولهذا كان جواب موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إذ لا يقول هذا القول في اللّه إلا من جهل قدر اللّه، ولم يعرف ما للّه من كمال وجلال.
{إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثم زاد موسى القوم علما وبيانا، فكشف لهم عن عبدة الأصنام هؤلاء، وأن هذا الذي هم فيه من عبادة الأصنام ليس إلا غيّا وضلالا، وإلا عبثا ولعبا.
والمتبّر: الهالك الضائع، والتبار: الهلاك والفساد.. وهذا هم فيه ضلال وبوار.. لا يثمر إلا ضلالا وبوارا.
{قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} أعاد موسى القول هنا لأنه في مواجهة مباشرة لبنى إسرائيل، بعد أن كان الخطاب متجها إلى عبدة الأصنام.
وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً} أي أأطلب لكم إلها غير اللّه الذي رأيتم آياته فيكم، وكيف فعل بعدوّكم؟
وقوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} المراد بالعالمين، الجماعات التي كانت معروفة لهم يومئذ، وقد فضلهم اللّه عليهم لأنهم كانوا أهل كتاب، وعلى إيمان باللّه، على حين كانت الأمم المتصلة بهم أمما وثنية، تدين بعبادة معبودين غير اللّه.
{وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي إذا لم تعرفوا اللّه في جلال ذاته، وفي عظمة ملكه، فاعرفوه بما أنعم به عليكم، وبما له من آثار واضحة فيكم.. فقد كنتم في بلاء يصبّ عليكم صبّا من آل فرعون.. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} أي يكرهونكم إكراها على هذا العذاب الأليم، الذي يسوقونكم سوقا إليه، كما تساق السائمة، لا تملك من أمرها شيئا.. {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي في هذا الذي كنتم فيه، وفى هذا الذي صرتم إليه، بلاء من ربكم واختبار لكم.. ففى الحال الأولى اختبار لصبركم على الضرّ، وفي الحال الثانية اختبار لقيامكم بالشكر.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12